الخطاب الجامعي من منظور جديد

كتب التقرير: زيدان عودة

نظّمت الندوة العلميّة في قسم اللّغة العربيّة وآدابها بجامعة الملك سعود يوم الثلاثاء 27/12/1435 محاضرة علميّة بعنوان: "الخطاب الجامعيّ من منظور جديد: السؤال ودوره في تنمية مهارة الكتابة عند طلاّب المراحل العليا" أ.د. حاتم عبيد أستاذ اللّسانيّات وتحليل الخطاب. وقد أدار اللّقاء الأستاذ الدكتور أحمد حيزم والدكتورة أمل الراشد وكيلة القسم النسائيّ . وفي بداية اللّقاء رحّب الدكتور هاجد الحربي بالدكتور المحاضر وبالضيوف. ثمّ استفتح الأستاذ الدكتور أحمد حيزم بتقديم نبذة مختصرة عن الأستاذ الدكتور حاتم عبيد، تلا ذلك تقديم المحاضر ورقته بعنوان : الخطاب الجامعيّ من منظور جديد: السؤال ودوره في تنمية مهارة الكتابة عند طلاّب المراحل العليا".

أشار الدكتور المحاضر إلى أنّه ينطلق في محاضرته من اقتناع مفاده ضرورة الخروج بالدرس اللّسانيّ من سماء النظريّات إلى أرض الواقع وساحة الخطاب. وبيّن أنّ خير سبيل إلى ترويج المعارف اللّسانيّة وإلى جعل الطلاّب يقبلون عليها هي إقامة الدليل على أنّ للّسانيّات فوائد ومنافع على اللّغة العربيّة وعلى ما يُنتج من خطابات بهذه اللّغة التي أكّد المحاضر أنّ لها علينا حقوقا منها أن نفيد من اللّسانيّات لنيسّر تعلّمها على غير الناطقين بها، حتّى تأخذ حظّها من الانتشار وتتّسع دوائر تداولها.

 ومن حقوق العربيّة على أهلها أن تتمّ الاستعانة باللّسانيّات لتطوير الخطابات المكتوبة بالعربيّة، كي تعبّر عمّا تشهده المعارف من تطوّر، وكي تستجيب تلك الخطابات لتطلّعات من يكتبون في اختصاص معيّن. وقد عرّف المحاضر الاختصاص بكونه خطابا، أو هو في تعريف أدقّ طريقة في تشكّل الخطاب وصناعته يستأثر بهما جماعة من الأفراد يُعرفون بأهل الاختصاص، مقابل أفراد آخرون يسعون إلى التمكّن من تلك الصناعة، حتّى يصبحوا بدورهم من تلك الجماعة الخطابيّة ومن أهل الاختصاص. وقد أشار المحاضر في هذا السياق إلى أنّ عددا من أولئك الأفراد يُوفّق في هذه المهمّة، بينما يُخفق آخرون. فلا تتمّ عمليّة انضمامهم إلى الجماعة الخطابية التي أرادوا الالتحاق بها.

 

 

 

 

 

 

وفي هذا السياق بيّن الدكتور حاتم عبيد أنّ الخطاب الجامعيّ لا يخرج عن هذه الحال، مؤكّدا أنّه خطاب ينتج ويتداول في فضاء مؤسّساتي هي الجامعة. وهو يتّخذ أشكالا وأجناسا  مختلفة، شأن الدروس والمحاضرات والمناقشات والمقالات المنشورة والورقات المقدّمة في المؤتمرات...

وقد ذكّر المحاضر أنّ الطلاّب في شتّى المستويات وفي مستوى الدراسات العليا يواجهون صعوبات كثيرة تحول بينهم وبين إنتاج خطاب جامعيّ موفّق يستجيب لمعايير الكتابة العلميّة، أي على النحو الذي ينتج به الجامعيّون المتمرّسون خطاباتهم. ونبّه المحاضر هنا أنّ الاستعانة بالدرس اللّسانيّ من أجل تذليل تلك الصعوبات والأخذ بيد الطلاّب وتنمية قدرتهم على إنتاج الخطابات الجامعيّة ممكنة، بل مطلوبة.

ومن النظريّات اللّسانيّة التي ذكرها  المحاضر وأشار إلى أنّه أفاد منها في النظر إلى الخطاب الجامعيّ من منظور جديد اللّسانيّات التداوليّة التي يعود الفضل إليها في التأكيد على قيمة البعد التداوليّ في اللّغة والجانب التفاعليّ في الخطاب الذي لا يمكن إدارك دوره الجليل في تحقيق نجاح الخطاب ونجاعته، إلاّ إذا كففنا عن النظر إلى اللّغة على أنّها مجموعة من القواعد من يحذقها يمتلك قدرة لسانيّة، وإلى عمليّة التخاطب على أنّها مجرّد تبادل للمعلومات.

 فالرأي عند المحاضر أنّ إضافة التداوليّة تكمن أساسا في تلك المبادئ العامّة التي تقع في مستوى أعلى والتي يساعد استبطانها على امتلاك قدرة تداوليّة تمكّن المتكلّم من استعمال اللّغة استعمالا ناجحا يناسب المقام ويخدم الغايات التواصليّة التي يريد تحقيقها. وقد ذكّر المحاضر في هذا الإطار بمؤلّفات مهمّة ومعروفة كتبها كلّ من ليتش وليفنسون ويول، وذكّر أيضا بأنّ في الوظائف الثلاث التي ضبطها هاليداي للّغة وظيفة تنخرط في البعد التفاعليّ للخطاب الذي نبّه التداوليوّن إلى قيمته، وقد عنى المحاضر بذلك الوظيفة البين شخصيّة أو العلائقيّة (interpersonal function) والتي يستخدم فيها المتكلّم اللّغة من أجل بناء علاقات مع الآخرين  وتمتين الصلة بمحاوريه.

من هذا المنطلق جاءت إفادة المحاضر من الدرس اللّسانيّ. واستنادا إلى ما سبق أشار المحاضر إلى أنّ العودة إلى هذه النظريّات اللّسانيّة كشفت له عن بعد لطيف في الخطاب الجامعيّ، هو البعد التفاعليّ الذي شدّد المحاضر على ضرورة فتح أعين الطلاّب عليه، لأنّ ذلك من شأنه أن يطوّر مهاراتهم على تحرير الرسائل الجامعيّة، ومن شأنه أن يكشف للأساتذة الذي يدرّسون مناهج البحث نوعا من المشاكل يعترض سبيل الباحث الناشئ أثناء تحرير بحثه. وهي مشاكل لا تتعلّق بالأخطاء اللّغوية ولا بالمسائل التقنيّة والشكليّة التي أفاضت الكتب الدائرة على مناهج الكتابة والبحث في الحديث عنها (خطّة البحث، طرائق الإحالة، إعداد الفهارس، إعداد الجذاذات...).

من هذا المنظور التفاعليّ دعا المحاضر إلى تجديد النظر في الخطاب الجامعيّ. وهو يرى أنّ كتب مناهج البحث على كثرتها ورغم فوائدها الجمّة صدرت عن منظور يشترك في جملة من السمات منها: إنّ هذه الكتب لم تر من أصول كتابة الرسائل الجامعيّة إلاّ ما تعلّق بالجوانب التقنيّة والشكليّة. وهي لم تر في الخطاب الجامعيّ إلا أفكارا وأطروحات يعبّر عنها الباحثون وواقعا يصفونه. وهو ما قاد أصحاب هذه الكتب إلى الحديث عن اللّغة التي تحرّر بها الرسائل حديثا فيه تبسيط كثير لم يتعدّ مجرّد النصائح والتوجيهات التي تذكّر بقواعد اللّغة ووضوح العبارة ودقّة الأداء.

وقد استخلص المحاضر مّا سبق أنّ اللّغة كانت عند أصحاب تلك الكتب مجرّد وعاء توضع فيه الفكرة حتّى لا تكون غامضة. ومن خصائص المنظور التقليديّ أنّه نظر إلى الخطاب الجامعيّ الذي يحرّره طلاّب الماجستير والدكتوراه من زاوية ما ينبغي أن يكون من غير النفاذ إلى داخل ذلك الخطاب. وهذا ما جعل تلك الكتب شبيهة بكتب التعليمات.

لهذه الأسباب دعا المحاضر إلى ضرورة الخروج من هذا المنظر الشكليّ الضيّق إلى منظور آخر يجعل الخطاب الجامعيّ بسبب من الذات التي تنتجه (الطالب الذي يسعى إلى الانضمام/الانتماء  إلى أهل الاختصاص وهي غاية لا تتحقّق إلاّ إذا كان خطاب الطالب ينتسب بوضوح إلى ما يكتبه أهل الاختصاص ) والجمهور الذي يستقبله ويتفاعل معه (أهل الاختصاص) والاختصاص الذي ينضوي فيه (إنتاج الخطاب الجامعيّ يختلف بعض الاختلاف من اختصاص إلى آخر) والمؤسّسة التي ترعاه (الجامعة).  

وقد ذكّر المحاضر في هذا الصدد بأعمال سابقة له نشرها في مجلاّت علميّة محكّمة تنخرط في هذا المنظور الجديد الذي يولي أهمّية للبعد التفاعليّ في الخطاب الجامعيّ. وأشار المحاضر إلى أنّه اهتمّ في تلك الأعمال بظواهر لغويّة يسهم استعمالها في إضفاء قدر من التفاعل مطلوب على الخطاب الجامعيّ من قبيل ظاهرة التلطيف (hedging)  وما يعرف بالخطاب على الخطاب (metadiscourse)  واستعمال ضمير المتكلّم. ووضّح المحاضر أنّه سيتناول فيما بقي من المحاضرة ظاهرة لغويّة أخرى لها دور كبير في جعل كتابة الطلاّب تفاعليّة. وقد عنى بذلك استخدام السؤال.

وقد رأى المحاضر من المفيد ومن باب تقريب هذا البعد التفاعليّ من الأذهان أن يذكّر بثلاثة مستويات موجودة في ما ينتجه الطلاّب من خطابات: فكرة يعبّر عنها الطالب وقارئ يخاطبه ويتفاعل معه ونصّ ينشئه ويبنيه. وقال المحاضر إنّ في كلّ مستوى من هذه المستويات مشاكل يواجهها الطالب لأنّه لا يحسن إدارة البعد التفاعليّ في الخطاب. فعدد من تلك المشاكل تتعلّق بالكيفيّة التي يبسط بها الطالب الأفكار وما يعبّر عنه من مواقف وأحكام تجاه الفكرة التي يعرضها. وعدد آخر من المشاكل كامن في الكيفيّة التي يتفاعل بها الطالب مع قائه (أستاذ، مصلح امتحان، عضو لجنة مناقشة، محكّم...). وجزء ثالث من تلك المشاكل ذو صلة بالنصّ الذي يحرّره (مدى تماسك هذا النصّ وانسجامه).

 وبناء على ما سبق تساءل المحاضر عن كيفيّة توظيف السؤال والتفنّن في إلقائه لإنتاج خطابات جامعيّة يظهر فيها الباحث متفاعلا مع الأفكار التي يعبّر عنها والقارئ الذي يتّجه إليه بالخطاب والنصّ الذي هو بصدد بنائه.

وقد وضّح المحاضر أنّه سيتناول السؤال في ثلاثة مستويات: المستوى الأوّل يبرز فيه كيف يضفي السؤال قدرا من التفاعل على الفكرة، المستوى الثاني: السؤال ودوره في توثيق الصلة مع القارئ، المستوى الثالث: السؤال ودوره في بناء النصّ.

وقد اكتفى المحاضر ربحا للوقت بالمستوى الأوّل. وبدأ بالقول بأنّه من المفيد أن يعرف الطلاّب أنّ الأفكار التي يعرضونها في رسائلهم ليست من صنو واحد وأنّ التفاعل معها وكيفيّة التعبير عنها يختلفان بحسب نوع الفكرة (هناك فكرة نضجت، هناك فكرة تبلورت واتّضحت في ذهن صاحبها، هناك أفكار عامّة وأخرى أشبه بالحقائق والبديهيّات. ولكنّ هناك أفكارا من قبيل الزاعم، وأفكارا غير واضحة، وأفكارا يكتنفها الغموض، وأفكارا لم تكتمل بعد لأنّها في طور التخلّق والتهيّؤ للوجود. هناك فكرة ملك لصاحبها، وأخرى لا يستطيع أن ينسبها لنفسه. هناك فكرة يؤمن الباحث بها ويحاول الدفاع عنها. وهناك فكرة لا يسلّم بصحّتها، ومن ثمّ يحاول دحضها....).

وقد وضّح المحاضر أنّ الفكرة لا توجد إلاّ وهناك موقف منها وتوجيه لها وتفاعل معها. وهنا يدخل السؤال وتظهر قيمته ويكون أحسن أداة يعبّر بها الطالب عن نوع تفاعله مع  الفكرة  التي يعبّر عنها. وقد ضرب المحاضر أمثلة على ذلك جاء بها من كتب نشرها أساتذة جامعيّون. وبيّن من خلال عدد من تلك الأمثلة أنّ استخدم السؤال بذكاء طريقة أشار بها الكاتب إلى أنّه يعيش لحظة من القلق المعرفيّ، وأنّه لا يمتلك جوابا شافيا وكافيا للمسألة التي يثيرها. وضرب المحاضر أمثلة أخرى بيّن فيها أنّ السؤال كان أداة ناجحة عبّر بها الكاتب عن كونه لا يستطيع أن يحسم في القضيّة التي يبسطها ولا يمكنه أن يعبّر عنها بأسلوب خبريّ تقريريّ، إلاّ  إذا أراد أن يجازف ويكون عرضة للنقد، إن ثبت في دراسات لاحقة بطلان رأيه.

   ومن مزايا استخدام السؤال في هذا المستوى التفاعليّ الأوّل أنّه طريقة تمكّن الطالب من أن يقدّم أطروحته على أنّها افتراض لا على كونها من الحقائق الثابتة وهو ما يتماشى والروح العلميّة. والسؤال أيضا ومن خلال أمثلة ضربها المحاضر أداة مفيدة حين تكون الفكرة المعبّر عنها من قبيل تلك الأفكار التي تتعلّق بظواهر وموضوعات يصعب تصنيفها ووضعها في خانات من غير أن يثير ذلك اعتراض المعترضين. والسؤال يستخدم أيضا للتعبير عن كون الفكرة المعبّر عنها لا يوجد حولها اتّفاق، ومن ثمّ يصعب القول فيها برأي قاطع ونهائيّ.

وقد ختم المحاضر محاضرته بقوله إنّ الأمثلة التي ضربها أظهرت الباحث الذي يحسن استخدام السؤال كاتبا لا ينفكّ يتفاعل مع الأفكار التي يعبّر عنها  بروح علميّة قلقة وبنبرة غير مطمئنّة، بعيدا عن الوثوق الذي يجافي العلم والطابع التقريريّ الذي يجعل الكتابة باردة لا روح فيها.