أنت هنا

    إن الابداع والموهبة ليست جديدة على المملكة العربية السعودية التي حصلت على المركز الثاني عربياً، والمركز (42) دولياً في مؤشر "الابتكار العالمي"، والمركز الرابع عربياً والـــــ (79) عالمياً في مؤشر أداء "عدد براءات الاختراع المسجلة لكل مليار من الناتج المحلي الاجمالي"، وهكذا في بقية المؤشرات الدولية التي تقيس المكانة الدولية من حيث الابتكار والتميز والابداع. يأتي هذا كثمار للاهتمام برعاية وتبني وتنمية الابداع منذ الصغر من خلال انشاء مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والابداع التي أسسها خادم الحرمين الشريفين – يرحمه الله – الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود.

 

  إن الظروف الاقتصادية والسياسية التي تمر بها المملكة اليـوم تتطلـب إعـادة تـصميم الوظـائف والعمليات وتحسين مستويات الأداء والرقابة ونظم الاتصال، ودراسة الأثر المباشر لها في تحقيق ميـزة تنافسية، كما أن زيادة حدة التنافس وانفتاح السوق يتطلب من الوزارات ان تستحث الخطى للبحث عن ميزة تنافسية خدمية تجعلها قادرة على تحقيق التقدم التنافسي في أدائها ومن هذه الوزارات وزارة التعليم ووزارة الصحة لما لها تأثير مباشر على المواطن ومستقبل الدولة.

 

أعتقد أن البحث عن الميزة التنافسية للمملكة بجميع مؤسساتها كان سبباً رئيساً وراء التغييرات الوزارية التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله ورعاه. تعبر هذه التغييرات عن نظرة استراتيجية ثاقبة تلبي إحتياجات الوطن والمواطن، خلال المرحلة الحالية والمقبلة، وتولي اهتماماً بالغاً بإعادة هندسة الوزارات والدوائر الحكومية وما تقدمه من خدمات للمواطنين، إضافة لتقييم دقيق لمواطن الضعف، وتعزيز لمواطن القوة. لقد قام خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ورعاه، وبمهارة الجراح الخبير والمتمرس، وبعد توكله على الله، بتجديد دماء الدولة، استجابة لإحتياجات الوطن والمواطن بكل دقة وإتقان. تشير التغييرات الوزارية التي شملت إسناد حقائب العديد من الوزارات إلى كفاءات معروفة بإسهاماتها في القطاع الخاص، إلى توجه الدولة السريع إلى دعم القطاع الحكومي ليواكب وينافس القطاع الخاص في شتى المجالات. إن القطاع الحكومي مؤهل لهذا التنافس والتميز من خلال قياداته المشهود لهم بالكفاءة والإنجاز الفارق. إنني استقرأ ذلك من خلال خبرتي بالتخطيط الاستراتيجي وممارستي العملية لعمليات التخطيط والتنفيذ والمتابعة بجامعة الملك سعود (فخر الجامعات السعودية)، حيث أتوقع أن يفوق القطاع الحكومي نظيره الخاص على مدى ليس ببعيد، وأعتقد كذلك أن هذا القطاع الحكومي سيحدث نقلة نوعية وقيمة مضافة لاقتصاد الدولة وقدراتها المؤسسية. إنني أنظر إلى ما يتم انجازه على ارض الواقع في مجال التميز والابداع والابتكار على أنه ثمار ونتيجة ملموسة لما تقوم به القيادة الرشيدة للمملكة العربية السعودية من أجل أن تكون هذه الدولة في صفاف الدول الرائدة والمتقدمة، وبالشكل الذي يليق بها من منطلق أنها قبلة للعرب والمسلمين.

       إن نظرتي هذه تتأكد من خلال الفعالية التي نظمتها جامعة الملك سعود في 26 جمادى الآخرة برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبد العزيز آل سعود بعنوان "جامعة تخترع". تعتبر النماذج التي عرضت بهذه الفعالية دليلاً على الغد المشرق والأمل الذي يبعث في النفوس ويقضي على أي محاولة لليأس من أن مستقبل هذا البلد مشرق وغده رائد ومكانته عالية. إن تشريف سموه  لهذه الفعالية له دلالة على أن القيادة الرشيدة تولي التعليم ورعاية الابداع أولوية قصوى في جدول اعمالها.

 

وإنني أعتقد، بل متيقن من أن روح الابداع والابتكار لايمكن ان تستمر وتزدهر إلا من خلال عملية إعادة هندسة الأعمال الحالية والنظرة بطريقة اخرى للأمور أو ما يطلق عليها بالمصطلح (الهندرة Reengineering) تمثل إعادة التفكير بصورة جذرية، وإعادة تصميم شامل لعمليات الأعمال لتحقيق تحسينات كبيرة في اتخاذ التدابير الحاسمة والمعاصرة للأداء، مثل التكلفة والجودة والخدمة والسرعة. وتشمل كذلك وضع استراتيجيات جديدة للعمل وعمليات التصميم والتنفيذ لإحداث تغيير في جميع الأبعاد التكنولوجية والبشرية والتنظيمية المعقدة.  وتهدف الهندرة بشكل عام إلى رفع كفاءة وفعالية المتابعة الداخليةوعلى سبيل المثال لا الحصر، أعتقد أن عملية الدمج بين وزارة التعليم العالي ووزارة التعليم قد تكون بداية لإصلاح شامل في منظومة التعليم العالي وقبل الجامعي. ويكون التركيز في الفترة القادمة على الخدمات المباشرة التي تقدم في مجال التعليم قبل الجامعي للرقي بمخرجاته، وتوحيد التوجه والتكامل وتقليل الهدر، مما يحسن بدرجة كبيرة مدخلات الجامعات وينعكس إيجابا على تميز مخرجاتها. سيعزز هذا الدمج استقلال الجامعات والذي سيؤدي إلى الارتقاء بها سواء كانت بحثية أو تعليمية أو كلاهما معاً وذلك في إطار توجهها الاستراتيجي الذي يندرج من الخطة الوطنية للتعليم.

 

ويجب التأكيد على أن إعادة الهندسة (الهندرة) التي يقودها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله ورعاه تتم لمؤسسات حيوية في الدولة، وتحتاج  إلى وجود خطة استراتيجية لهذه  المؤسسات، وإدارة تنفيذية لهذه الخطط تضع نصب أعينها إدارة للتغيير، وإدارة للمخاطر التي عادة ما يتم التعامل معها باحترافية ما دام التخطيط الاستراتيجي سليم ومكتمل، وكذلك أن تضع استراتيجية هذه المؤسسات في اعتبارها  آليات إتصال قوية تضمن الوصول السريع والتلاحم بين قادة هذه المؤسسات والمستفيدين منها حتى تكون كافة قراراتها ناجحة وتخدم كافة الأطراف المعنية.

 

وما يؤكد تلك النظرة المستقبلية لملك البلاد سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله ورعاه أنه وضع قاعدة متميزة من المستشارين تراعي مشروع إعادة الهندسة في مجملها. والذي أتوقع سيكون لهم دوراً كبيراً في تخطيط ومتابعة تنفيذ هذه الأعمال التطويرية وتقييمها والرفع لخادم الحرمين الشريفين، وسيكون من مهامه ما يسمى نافخي صفارة الإنذار (Whistle Blowers) والذي يمثل مستوى عالي من إدارة المخاطر وذلك لأهمية المنجز، وكذلك سيقومون برصد الممارسات الجيدة ونشرها لتعظيم الاستفادة منها من قبل الآخرين.

 

إن إعادة الهندسة أو الهندره، على الرغم من تقاربها مع مفاهيم الجودة، إلا أنها تسعى إلى التحسين بشكل جذري. حيث إنها تمثل إعادة تصميم الوظائف والعمليات وتحـسين مـستويات الأداء وتخفـيض مستويات الرقابة وتحسين نظم الاتصال، وليس مجرد تحسن مستمر. ويتشابها في أن جميع أساليب العمل فيهما ترتكز على استعراض المنتج سواء كان صناعياً أوخدمياً، وتحديد مواصفاته المطلوبة التي تحقق تطلعات المستفيدين منه، ثم العمليات الأساسية، مع توسيع نطاق الرؤية العملية. وفي هذا يجب مراعاة أو تطبيق فلسفة باريتو والتي تقول أن 20% من الأعمال قد تنتج 80% من الأخطاء وهذه الـــ 20% من الأعمال يجب مراعاتها كبداية في عملية إعادة الهندسة، وفيها تكمن المكاسب خاصة في الوزارات الخدمية، وذلك لكون غالبها تمثل عمليات أساسية، حيث سيلاحظ المواطنون التحسن في أداء الخدمات بشكل مباشر. وفي هذا التطوير يجب مراعاة مواطن المكاسب السريعة (Quick wins). ولا ننسى السببين الرئيسين لهذا التخطيط الاستراتيجي وهو تحسين جودة المنتج وتقليل أو منع الهدر.

ومن هنا، فإن تطبيق فلسفة الكايزن Kaizen أو تبنيها سيكون مفيداً جداً، وهي طريقة مبتكره وفلسفة إبتكرها اليابانيون لإدارة المؤسسات الصناعية والمالية والخدمية بل وسائر مناحي الحياة. تعتمد فلسفة الكايزن على التحليل والعمليات وتهدف إلى تقليل الهدر في الموارد والوقت والجهد وزيادة الإنتاج وهي مفهوم مرادف للجودة بمعناها الواسع الشامل، بل أنها تعتمد على المفاهيم الجديدة في علم الجودة، كان أنها تعالج بعض آليات تطبيقات إدارة الجودة الشاملة وكذلك ضمان الجودة.

    إن مراكز المعرفة بجامعة الملك سعود وهي جامعة الوطن، متنوعة وعديدة وفعالة مثل معهد التصنيع المتقدم، مركز تقنيات الطاقة المستدامة، مركز سابك لأبحاث البوليمرات، مركز التميز لأمن المعلومات، مركز القيادة والسيطرة للأنظمة المتقدمة، معهد الملك عبد الله لتقنية النانو، مركز التميز البحثي في التقنية الحيوية، المركز الاستراتيجي لأبحاث السكري، ووحدة الخلايا الجذعية، والتي تركز جميعها على استثمار المعرفة في مجال خدمة المجتمع السعودي والعالمي، تعتبر نموذجاً لدعم القيادة الرشيدة للعلم والابتكار، حيث تعدى الامر أن بعض هذه المراكز يحمل اسماء قادة المملكة.

    ان العدد الهائل من براءات الاختراع المسجلة التي عرضت في فعالية "جامعة تخترع"، والتي زاد عددها عن الخمسين اختراع، لدليل على العقلية المميزة للباحثين السعوديين الذين يقدمون ابداعات في جميع العلوم الصحية والعلمية والهندسية والتي تعود بالنفع والرفاهية، ليس فقط على المجتمع السعودي، بل على البشرية بأسرها.

 

     لاياتي شيء في هذه الحياة صدفة أو بدون سبب، حيث مانراه اليوم من ابداعات، ومانود ان نراه مستقبلا من الاستمرار في هذه المسيرة من خلال اعادة هندسة العمليات من أجل المزيد من التقدم والرقي، يأتي من الدعم اللامحدود من القيادة الرشيدة التي تدعم بصورة متواصلة وبجهود حثيثة الابتكار والابداع، والمثال على ذلك ليس فقط فعالية "جامعة تخترع" بل ماسبقها من فعاليات مثل "المهرجان السعودي للعلوم والابداع" الذي زاره أكثر من 176 ألف زائر، وتحدث فيه عدداً من العلماء وذوي الاختصاص والمخترعين من أمريكا واليابان وغيرها من الدول المتقدمة، وتم تكريم الطلاب والطالبات الذين قدموا 72 مشروعاً فائزاً في هذا المهرجان، في تنافس في حوالي 17 مجال متنوع في البحث والابتكار، بما زاد قيمة الجوائز عن 700 ألف ريال. ويأتي حصول الطلاب السعوديين على المركزين الأول والثاني في مسابقة GLOBE التي شارك فيها 13 دولة، وكذلك المركزين الأول والثاني اقليميا والثالث عالميا في ابحاث المناخ كدليل على رعاية الموهبة والابداع في هذا الوطن الغالي.

 

وأخيراً إن ما عرضته في مقالي هذا ما هو إلا نظرة مستقبلية لما أتوقعه شخصياً خلال الفترة القادمة بحسب خبرتي المتواضعة للارتقاء بكافة الخدمات التي تقدم للمواطنين وفق المستوى المطلوب من الجودة، في ظل القرارات السامية التي أصدرها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله.  إن الكوادر السعودية قادرة على التميز والريادة على مستوى العالم، ولعل هذا يذكرني بمعالي الدكتور عبد الله العثمان المدير الأسبق لجامعة الملك سعود والخطة الاستراتيجية لجامعة الملك سعود. هذه الخطة الاستراتيجية التي أطلقها معالي الدكتور عبد الله العثمان ودشنها حين ذاك الملك سلمان بن عبدالعزيز (أثناء ولايته للعهد)، قد وضعت نواة وساهم بإحداث نقلة نوعية لجامعة الملك سعود. وبعد تولي معالي الدكتور بدران العمر إدارة جامعة الملك سعود ودعم معاليه الواضح واللامحدود لتفعيل الخطة الاستراتيجية من خلال استحداث نظام بطاقة الأداء المتوازن BSC، وإعداد خطة المخاطر بالجامعة، ومشروع إعادة الهيكلة، ومشروع هوية الجامعة. كل ذلك تسبب في إحداث حراكاً تطورياً ليس فقط في جامعة الملك سعود بل انتقل الخير والنفع بهذه الممارسات الجيدة إلى جميع الجامعات السعودية ووزارة التعليم العالي نفسها، حيث حرك ذلك السكون والنمطية التي استمرت عقوداً طويله في قطاع التعليم العالي. ويذكر لمعالي الدكتور بدران العمر دعم معاليه لتطبيق ما يسمى "ذكاء الأعمال" (Business Intelligence)، وهو داعم قوي  لمتخذ القرارات من خلال مشروع "انشاء مستودع للبيانات بالجامعة" (Data warehouse). كما لاننسى الجهود المتميزة التي بذلت ومازالت مستمرة بشأن التجربة الرائدة لجامعة الملك سعود في إنشاء نظام للأوقاف يضاهي الممارسات العالمية للجامعات الرائدة في هذا المجال مثل كامبردج، برتش كولومبيا، تورنتو، ستنافورد، وغيرها.  

 

إنني استبشر خيراً وأتطلع إلى وجود خطة استراتيجية لوزارة التعليم تنهض بكافة مخرجاتها لتكون أولى دعامات الاقتصاد الوطني في ظل التطورات الاقتصادية المتلاحقة على مستوى العالم، وأتمنى أن تتبنى هذه الخطة شعار " ريادة عالمية وتميز في بناء مجتمع المعرفة ".

 وفق الله وطني وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لما فيه خير البلاد والعباد، وخدمة العالم الإسلامي والعربي والإنسانية جمعاء. 

 

د. عبدالحكيم بن عبدالمحسن أبابطين

عميد عمادة التطوير وعميد عمادة الجودة المكلف

جامعة الملك سعود